الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} قد تقدم ذكر سبب نزولها. وقال عكرمة: لما قالت اليهود: نحن نعبد عُزيرَ ابن الله. وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح ابن الله. وقالت المجوس: نحن نعبد الشمس والقمر. وقالت المشركون: نحن نعبد الأوثان -أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يعني: هو الواحد الأحد، الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يُطلَقهذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله، عز وجل؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قال عكرمة، عن ابن عباس: يعني الذي يصمد الخلائق إليه في حوائجهم ومسائلهم. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار. وقال الأعمش، عن شقيق عن أبي وائل: {الصَّمَدُ} السيد الذي قد انتهى سؤدده، ورواه عاصم، بن أبي وائل، عن ابن مسعود، مثله. وقال مالك، عن زيد بن أسلم: {الصَّمَدُ} السيد. وقال الحسن، وقتادة: هو الباقي بعد خلقه. وقال الحسن أيضا: {الصَّمَدُ} الحي القيوم الذي لا زوال له. وقال عكرمة: {الصَّمَدُ} الذي لم يخرج منه شيء ولا يطعم. وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد. كأنه جعل ما بعده تفسيرًا له، وهو قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وهو تفسير جيد. وقد تقدم الحديث من رواية ابن جرير، عن أبي بن كعب في ذلك، وهو صريح فيه. وقال ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وعبد الله بن بُريدة، وعكرمة أيضا، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وعطية العوفي، والضحاك، والسدي: {الصَّمَدُ} الذي لا جوف له. قال سفيان، عن منصور، عن مجاهد: {الصَّمَدُ} المصمت الذي لا جوف له. وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب. وقال عبد الله بن بُرَيدة أيضًا: {الصَّمَدُ} نور يتلألأ. روى ذلك كلَّه وحكاه: ابن أبي حاتم، والبيهقي والطبراني، وكذا أبو جعفر بن جرير ساق أكثر ذلك بأسانيده، وقال: حدثني العباس بن أبي طالب، حدثنا محمد بن عمرو بن رومي، عن عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش، حدثني صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال -لا أعلم إلا قد رفعه- قال: {الصَّمَدُ} الذي لا جوف له. وهذا غريب جدًا، والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن بريدة. وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة له، بعد إيراده كثيرًا من هذه الأقوال في تفسير "الصمد": وكل هذه صحيحة، وهي صفات ربنا، عز وجل، وهو الذي يُصمَد إليه في الحوائج، وهو الذي قد انتهى سؤدده، وهو الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خلقه. وقال البيهقي نحو ذلك [أيضا] . وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أي: ليس له ولد ولا والد ولا صاحبة. قال مجاهد: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} يعني: لا صاحبة له. وهذا كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101] أي: هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه، أو قريب يدانيه، تعالى وتقدس وتنزه. قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 -95] وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26، 27] وقال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 158، 159] وفي الصحيح -صحيح البخاري-: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم". وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله، عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يُعيدَني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا. وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد". ورواه أيضا من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة، مرفوعًا بمثله. تفرد بهما من هذين الوجهين. آخر تفسير سورة "الإخلاص"
وهما مدنيتان. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا عاصم بن بَهْدَلة، عن زر بنُ حُبَيش قال: قلت لأبي بن كعب: إن ابن مسعود [كان] لا يكتب المعوذتين في مصحفه؟ فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل، عليه السلام، قال له: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " فقلتها، قال: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " فقلتها. فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه أبو بكر الحُميدي في مسنده، عن سفيان بن عيينة، حدثنا عبدة بن أبي لُبَابة وعاصم بن بهدلة، أنهما سمعا زر بن حبيش قال: سألتُ أبي بن كعب عن المعوذتين، فقلت: يا أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يَحُكهما من المصحف. فقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قيل لي: قل، فقلت". فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أحمد: حدثنا وَكيع، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر قال: سألتُ ابنَ مسعود عن المعوذتين فقال: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عنهما فقال: "قيل لي، فقلت لكم، فقولوا". قال أبي: فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نقول. وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عَبدَةُ بن أبي لُبَابة، عن زر بن حُبَيش -وحدثنا عاصم عن زر- قال: سألت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا. فقال: إني سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قيل لي، فقلت". فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاري أيضًا والنسائي، عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن عبدة وعاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب، به. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الأزرق بن علي، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا الصَّلْت بن بَهرَام، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كان عبد الله يَحُك المعوذتين من المصحف، ويقول: إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما، ولم يكن عبد الله يقرأ بهما. ورواه عبد الله بن أحمد من حديث الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه، ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله -قال الأعمش: وحدثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: سألنا عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "قيل لي، فقلت". وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء: أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتواتر عنده، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة، رضي الله عنهم، كتبوهما في المصاحف الأئمة، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، ولله الحمد والمنة. وقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن بيان، عن قيس بن أبي حَازم، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم يُر مثلهن قط: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ". ورواه أحمد، ومسلم أيضا، والترمذي، والنسائي، من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عقبة، به. وقال الترمذي: حسن صحيح. طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جابر، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن عقبة بن عامر قال: بينا أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نَقب من تلك النقاب، إذ قال لي: "يا عقبة، ألا تَركب؟". قال: [فَأجْلَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه. ثم قال: "يا عُقيب، ألا تركب؟". قال] فأشفقت أن تكون معصية، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبت هنيهة، ثم ركب، ثم قال: "يا عقيب، ألا أُعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟". قلت: بلى يا رسول الله. فأقرأني: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ثم أقيمت الصلاة، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بهما، ثم مر بي فقال: "كيف رأيت يا عقيب اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت". ورواه النسائي من حديث الوليد بن مسلم وعبد الله بن المبارك، كلاهما عن ابن جابر، به. ورواه أبو داود والنسائي أيضًا، من حديث ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عقبة، به. طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني يزيد ابن عبد العزيز الرعيني وأبو مرحوم، عن يزيد بن محمد القرشي، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، من طرق، عن علي بن أبي رباح. وقال الترمذي: غريب. طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن مشَرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ بالمعوذتين، فإنك لن تقرأ بمثلهما". تفرد به أحمد. طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا حيوة بن شُرَيْح، حدثنا بَقِيَّة، حدثنا بَحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدان، عن جُبَير بن نُفَير، عن عقبة بن عامر أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له بغلة شهباء، فركبها فأخذ عقبة يقودها له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ". فأعادها له حتى قرأها، فعرف أني لم أفرح بها جدًا، فقال: "لعلك تهاونت بها؟ فما قمت تصلي بشيء مثلها". ورواه النسائي عن عمرو بن عثمان، عن بقية، به . ورواه النسائي أيضا من حديث الثوري، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عقبة بن عامر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين، فذكر نحوه. طريق أخرى: قال النسائي: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، سمعت النعمان، عن زياد أبي الأسد، عن عقبة بن عامر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الناس لم يتعوذوا بمثل هذين: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ". طريق أخرى: قال النسائي: أخبرنا قتيبة، حدثنا الليث، عن أبي عجلان، عن سعيد المقبري، عن عقبة بن عامر قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عقبة، قل". فقلت: ماذا أقول؟ فسكت عني، ثم قال: "قل". قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ فسكت عني، فقلت: اللهم، أردده على. فقال: "يا عقبة، قل". قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ فقال: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ "، فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثم قال: "قل". قلت: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: "" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ "، فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما". طريق أخرى: قال النسائي: أخبرنا محمد بن يسار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا معاوية، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في صلاة الصبح. طريق أخرى: قال النسائي: أخبرنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عمران أسلم، عن عقبة بن عامر قال: اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه فقلت: أقرئني سورة هود أو سورة يوسف. فقال: "لن تقرأ شيئًا أنفع عند الله من " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق ". حديث آخر: قال النسائي: أخبرنا محمود بن خالد، حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي عبد الله، عن ابن عائش الجهني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا ابن عائش، ألا أدلك -أو: ألا أخبرك -بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؟". قال: بلى، يا رسول الله. قال: "" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق " و" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " هاتان السورتان". فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث. وقد تقدم في رواية صُدَيّ بن عجلان، وفَرْوَةَ بن مُجَاهد، عنه: "ألا أعلمك ثلاثَ سُوَر لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلهن؟ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " و" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ". حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا الجريري، عن أبي العلاء قال: قال رجل: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، والناس يعتقبون، وفي الظهر قلة، فحانت نزلَة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلتي، فلحقني فضرب [من بعدي] منكبي، فقال: "" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ "، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتها معه، ثم قال: "" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ "، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتها معه، فقال: "إذا صليت فاقرأ بهما". الظاهر أن هذا الرجل هو عقبة بن عامر، والله أعلم. ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية، به. حديث آخر: قال النسائي: أخبرنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، عن عبد الله بن سعيد، حدثني يزيد بن رومان، عن عقبة بن عامر، عن عبد الله الأسلمي -هو ابن أنيس-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال: "قل". فلم أدر ما أقول، ثم قال لي: "قل". قلت: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثم قال لي: "قل". قلت: "أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ " حتى فرغت منها، ثم قال لي: "قل". قلت: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " حتى فرغت منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا فَتَعَوَذْ ما تعوذَ المتعوذون بمثلهن قط". حديث آخر: قال النسائي: أخبرنا عمرو بن علي أبو حفص، حدثنا بَدَل، حدثنا شداد بن سعيد أبو طلحة، عن سعيد الجُرَيري، حدثنا أبو نَضْرة، عن جابر بن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا جابر". قلت: وما أقرأ بأبي أنت وأمي؟ قال: "اقرأ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " و" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس". فقرأتهما، فقال: "اقرأ بهما، ولن تقرأ بمثلهما". وتقدم حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهن، وينفث في كفيه، ويمسح بهما رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده. وقال الإمام مالك: عن ابن شهاب، عن عُرْوَة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده عليه، رجاء بركتها. ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، والنسائي عن قتيبة -ومن حديث ابن القاسم، وعيسى بن يونس -وابن ماجة من حديث معن وبشر بن عُمَر، ثمانيتهم عن مالك، به. وتقدم في آخر سورة: "ن " من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجان وعين الإنسان، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما. رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن.
بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا حسن بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: الفلق: الصبح. وقال العوفي، عن ابن عباس: {الْفَلَقِ} الصبح. ورُوي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن محمد بن عقيل، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي، وابن زيد، ومالك عن زيد بن أسلم، مثل هذا. قال القرظي، وابن زيد، وابن جرير: وهي كقوله تعالى: {فَالِقُ الإصْبَاحِ} [الأنعام: 96]. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {الْفَلَقِ} الخلق. وكذا قال الضحاك: أمر الله نبيه أن يتعوذ من الخلق كله. وقال كعب الأحبار: {الْفَلَقِ} بيت في جهنم، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره، ورواه ابن أبي حاتم، ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا سهيل بن عثمان، عن رجل سماه، عن السدي، عن زيد بن علي، عن آبائه أنهم قالوا: {الْفَلَقِ} جب في قعر جهنم، عليه غطاء، فإذا كشف عنه خرجت منا نار تصيح منه جهنم، من شدة حر ما يخرج منه. وكذا رُوي عن عمرو بن عَبَسَةَ} والسدي، وغيرهم. وقد ورد في ذلك حديثٌ مرفوع منكر، فقال ابن جرير: حدثني إسحاق بن وهب الواسطي، حدثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطي، حدثنا نصر بن خزيمة الخراساني، عن شعيب بن صفوان، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هُريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "{الْفَلَقِ} جُبّ في جهنم مغطى" إسناده غريب ولا يصح رفعه. وقال أبو عبد الرحمن الحبلي: {الْفَلَقِ} من أسماء جهنم. قال ابن جرير: والصواب القول الأول، أنه فلق الصبح. وهذا هو الصحيح، وهو اختيار البخاري، رحمه الله، في صحيحه. وقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} أي: من شر جميع المخلوقات. وقال ثابت البناني، والحسن البصري: جهنم وإبليس وذريته مما خلق. {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قال مجاهد: غاسقُ الليلُ إذا وقبَ غُروبُ الشمس. حكاه البخاري عنه. ورواه ابن أبي نَجِيح، عنه. وكذا قال ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي، والضحاك، وخُصَيف، والحسن، وقتادة: إنه الليل إذا أقبل بظلامه. وقال الزهري: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الشمس إذا غربت. وعن عطية وقتادة: إذا وقب الليل: إذا ذهب. وقال أبو المهزم، عن أبي هريرة: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} كوكب. وقال ابن زيد: كانت العرب تقول: الغاسق سقوط الثريا، وكان الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها. قال ابن جرير: ولهؤلاء من الأثر ما حدثني: نصر بن علي، حدثني بكار بن عبد الله -ابن أخي همام -حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قال: النجم الغاسق". قلت: وهذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن جرير: وقال آخرون: هو القمر. قلت: وعمدة أصحاب هذا القول ما رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو داود الحَفري، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث، عن أبي سلمة قال: قالت عائشة، رضي الله عنها: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فأراني القمر حين يطلع، وقال: "تَعوَّذِي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب". ورواه الترمذي والنسائي، في كتابي التفسير من سننيهما، من حديث محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن، به. وقال الترمذي: حسن صحيح. ولفظه: "تعوذي بالله من شر هذا، فإن هذا الغاسق إذا وقب". ولفظ النسائي: "تعوَّذي بالله من شر هذا، هذا الغاسق إذا وقب". قال أصحاب القول الأول وهو أنه الليل إذا ولج -: هذا لا ينافي قولنا؛ لأن القمر آيةُ الليل، ولا يوجد له سلطان إلا فيه، وكذلك النجوم لا تضيء، إلا في الليل، فهو يرجع إلى ما قلناه، والله أعلم. وقوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة والضحاك: يعني: السواحر -قال مجاهد: إذا رقين ونفثن في العقد. وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: ما من شيء أقرب من الشرك من رقية الحية والمجانين. وفي الحديث الآخر: أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت يا محمد؟ فقال: "نعم". فقال: بسم الله أرْقِيك، من كل داء يؤذيك، ومن شر كل حاسد وعين، الله يشفيك.ولعل هذا كان من شكواه، عليه السلام، حين سحر، ثم عافاه الله تعالى وشفاه، ورد كيد السحرَة الحسَّاد من اليهود في رءوسهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم، وفضحهم، ولكن مع هذا لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر، بل كفى الله وشفى وعافى. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن يزيد بن حَيَّان، عن زيد بن أرقم قال: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، قال: فجاءه جبريل فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عُقَدًا في بئر كذا وكذا، فَأرْسِل إليها من يجيء بها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [عليًا، رضي الله تعالى عنه] فاستخرجها، فجاء بها فحللها قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نَشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه [قط] حتى مات. ورواه النسائي عن هَنَّاد، عن أبي معاوية محمد بن حَازم الضرير. وقال البخاري في "كتاب الطب" من صحيحه: حدثنا عبد الله بن محمد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: أول من حدثنا به ابنُ جُرَيْج، يقول: حدثني آل عُرْوَة، عن عروة، فسألت هشاما عنه، فحدثَنا عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحر، حتى كان يُرَى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن -قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر، إذا كان كذا -فقال: "يا عائشة، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيتُه فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طَبَّه؟ قال: لَبيد بن أعصم -رجل من بني زُرَيق حَليف ليهُودَ، كان منافقًا- وقال: وفيم؟ قال: في مُشط ومُشاقة. قال: وأين؟ قال: في جُف طَلْعَة ذكر تحت رعوفة في بئر ذَرْوَان". قالت: فأتى [النبي صلى الله عليه وسلم] البئر حتى استخرجه فقال: "هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نُقَاعة الحنَّاء، وكأن نخلها رءوس الشياطين". قال: فاستخرج . [قالت] . فقلت: أفلا؟ أي: تَنَشَّرْتَ؟ فقال: "أمَّا اللهُ فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا". وأسنده من حديث عيسى بن يونس، وأبي ضَمْرة أنس بن عياض، وأبي أسامة، ويحيى القطان وفيه: "قالت: حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله". وعنده: "فأمر بالبئر فدفنت". وذكر أنه رواه عن هشام أيضًا ابن أبي الزَّناد والليث بن سعد. وقد رواه مسلم، من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة وعبد الله بن نمير. ورواه أحمد، عن عفان، عن وُهَيب عن هشام، به. ورواه الإمام أحمد أيضًا عن إبراهيم بن خالد، عن رباح، عن مَعْمَر، عن هشَام، عن أبيه، عن عائشة قالت: لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يُرى أنه يأتي ولا يأتي، فأتاه ملكان، فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما باله؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، وذكر تمام الحديث. وقال الأستاذ المفسر الثعلبي في تفسيره: قال ابن عباس وعائشة، رضي الله عنهما: كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبَّت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مُشَاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مُشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها. وكان الذي تولى ذلك رجل منهم -يقال له: [لبيد] بن أعصم- ثم دسها في بئر لبني زُرَيق، ويقال لها: ذَرْوان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه، ولبث ستة أشهر يُرَى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وجعل يَذُوب ولا يدري ما عراه. فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فَقَعَد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طُبَ. قال: وما طُبَ؟ قال: سحر. قال: ومن سحره؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي. قال: وبم طَبَه؟ قال: بمشط ومشاطة. قال: وأين هو؟ قال: في جُفَ طلعة تحت راعوفة في بئر ذَرْوَان -والجف: قشر الطلع، والراعوفة: حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح -فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعورًا، وقال: "يا عائشة، أما شعرت أن الله أخبرني بدائي؟". ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء البئر كأنه نُقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجف، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود، فيه اثنتا عشرة عقدة مغروزة بالإبر. فأنزل الله تعالى السورتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنما نَشطَ من عقال، وجعل جبريل، عليه السلام، يقول: باسم الله أرْقِيك، من كل شيء يؤذيك، من حاسد وعين الله يشفيك. فقالوا: يا رسول الله، أفلا نأخذ الخبيث نقتله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن يثير على الناس شرًا". هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد مما تقدم، والله أعلم. {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} هذه ثلاث صفات من صفات الرب، عز وجل؛ الربوبية، والملك، والإلهية: فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة عبيد له، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات، من شر الوسواس الخناس، وهو الشيطان الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يُزَين له الفواحش، ولا يألوه جهدًا في الخبال. والمعصوم من عَصَم الله، وقد ثبت في الصحيح أنه: "ما منكم من أحد إلا قد وُكِل به قرينة". قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" وثبت في الصحيح، عن أنس في قصة زيارة صفية النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، وخروجه معها ليلا ليردها إلى منزلها، فلقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال رسول الله: "على رسلكما، إنها صفية بنت حُيي". فقالا سبحان الله، يا رسول الله. فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا، أو قال: شرًا". وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن بحر، حدثنا عدي بن أبي عمَارة، حدثنا زيادًا النّميري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر خَنَس، وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس" غريب. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عاصم، سمعت أبا تميمة يُحَدث عن رَديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عَثَر بالنبي صلى الله عليه وسلم حمارهُ، فقلت: تَعِس الشيطان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقل: تعس الشيطان؛ فإنك إذا قلت: تعس الشيطان، تعاظَم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: بسم الله، تصاغر حتى يصير مثل الذباب". تفرد به أحمد، إسناده جيد قوي، وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغُلِب، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا الضحاك بن عثمان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا كان في المسجد، جاءه الشيطان فأبس به كما يُبَس الرجل بدابته، فإذا سكن له زنقه -أو: ألجمه". قال أبو هُرَيرة: وأنتم ترون ذلك، أما المزنوق فتراه مائلا- كذا- لا يذكر الله، وأما الملجم ففاتح فاه لا يذكر الله، عز وجل. تفرد به أحمد. وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} قال: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خَنَس. وكذا قال مجاهد، وقتادة. وقال المعتمر بن سليمان، عن أبيه: ذُكرَ لي أن الشيطان، أو: الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح، فإذا ذكر الله خنس. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {الْوَسْوَاس} قال: هو الشيطان يأمر، فإذا أطيع خنس. وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} هل يختص هذا ببني آدم -كما هو الظاهر -أو يعم بني آدم والجن؟ فيه قولان، ويكونون قد دخلوا في لفظ الناس تغليبا. وقال ابن جرير: وقد استعمل فيهم(رجَالٌ منَ الجنَ) فلا بدع في إطلاق الناس عليهم. وقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} هل هو تفصيل لقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ثم بينهم فقال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وهذا يقوي القول الثاني. وقيل قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} تفسير للذي يُوسوس في صدور الناس، من شياطين الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وكما قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا المسعودي، حدثنا أبو عُمَر الدمشقي، حدثنا عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست، فقال: "يا أبا ذر، هل صليت؟". قلت: لا. قال: "قم فصل". قال: فقمت فصليت، ثم جلست فقال: "يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن". قال: قلت: يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: "نعم". قال: قلت: يا رسول الله، الصلاة؟ قال: "خير موضوع، من شاء أقل، ومن شاء أكثر". قلت: يا رسول الله فما الصوم؟ قال: "فرض يجزئ، وعند الله مزيد". قلت: يا رسول الله، فالصدقة؟ قال: "أضعاف مضاعفة". قلت: يا رسول الله، أيها أفضل؟ قال: "جُهد من مُقل، أو سر إلى فقير". قلت: يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول؟ قال: "آدم". قلت: يا رسول الله، ونبي كان؟ قال: "نعم، نبي مُكَلَّم". قلت: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: "ثلثمائة وبضعة عشر، جَمًّا غَفيرًا". وقال مرة: "خمسة عشر". قلت: يا رسول الله، أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: "آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ورواه النسائي، من حديث أبي عمر الدمشقي، به . وقد أخرج هذا الحديث مطولا جدًا أبو حاتم بن حبان في صحيحه، بطريق آخر، ولفظ آخر مطول جدًا فالله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن منصور، عن ذر بن عبد الله الهَمْداني، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أحدث نفسي بالشيء لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". ورواه أبو داود والنسائي، من حديث منصور -زاد النسائي: والأعمش -كلاهما عن ذر، به. آخر التفسير، ولله الحمد والمنة، والحمد لله رب العالمين . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين . ورضي الله عن الصحابة أجمعين. حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكان الفراغ منه في العاشر من جمادي الأولى سنة خمس وعشرين وثمانين. والحمد له وحده. وقد جاء في خاتمة النسخة "هـ" هذه الخاتمة للناسخ: "الحمد لله الذي رفع السماء بغير عماد، وبسط الأرض وثبتها بالأطواد، ومنح معرفته ومحبته من شاء من العباد، وأقام لدينه أولياء ينصرونه ويقومون به، وجعل منهم النجباء والأقطاب والأوتاد، وأعلى منار الدين بالعلماء العاملين، وأوضح بهم طرق الرشاد، وقمع بهم أهل الزيغ والأهواء والبدع والفساد، وثبت لهم دينهم بالنقل عن نبيهم بصحيح الإسناد، ونفى عنهم التدليس والشذوذ والانفراد. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، المتعالي عن الشركاء والنظراء والأنداد، المنزه عن الحلول والاتحاد والإلحاد. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، سيد العباد، صلى الله عليه وعلى آله النجباء الأنجاد، وصحابته السادة الأبرار الأمجاد، صلاة تدوم وتقوم ما قامت السموات والأرض بأمره، وقابل البياض السواد. وبعد، فقد أمرني السيد الجليل، من وصل الله له جناح الصنيع الجميل، وواصل عليه السول، وأوصل إليه المأمول، وعمر بحبه ربوع أنسي، وأمطر بفيضه ربيع نفسي، مولانا وسيدنا العبد الفقير إلى الله سبحانه الآمل الراجي عفوه الكريم وإحسانه، قاضي القضاة، حاكم الحكام، نجم الدين حجة الإسلام والمسلمين، سيد العلماء في العالمين، بهاء الملة، لسان الشريعة، عز السنة، حصن الأمة، خطيب الخطباء، إمام البلغاء، غرة الزمان، ناصر الإيمان شيخ شيوخ العارفين، أبو حفص عمر - ابن سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى - الشيخ الإمام العلامة، والحبر الفهامة، قدوة العلماء العاملين، أبي محمد حجي السعدي الشافعي - أمر - أعلى الله أمره، وأسد قدره، من لا يتقلب إلا في طاعته، ولا يتصرف إلا في مرضاته - أن يكتب برسم خزانة تفسير الإمام العالم الكبير، العلامة عماد الدين ابن كثير - رحمه الله وأرضاه، وجعل بحبوحة الجنة مقره ومثواه. فامتثلت أمره بالسمع والطاعة، وعددت هذا الأمر من أنفس البضاعة، مع أني في الكتابة قليل الصناعة. فكتبت قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه. فإن صادفت قبولا وبلغت مأمولا، فيكون سعدي سعيدا، ويقع سهمي سديدا..
فإن وقفت بي قدرتي دون همتي *** فمبلغ علمي والمعاذير تقبل قد جمعت هذه الخزانة الشريفة أشتات العلوم على الإطلاق، من رام مثلها فهو مقصر عن روم أسباب اللحاق، خصوصا إذا كان بها هذا التفسير الذي مادته سنن المصطفى المنبه على جوامع ما يزداد اللبيب بها بصيرة في علمه النافع، إذ كان صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلام، وعلم فصل الخطاب. فلم يسمع الناس كلاما أعم نفعا، ولا أقصر لفظا، ولا أعدل وفرا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا. ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه صلى الله عليه وسلم. فلله در مولانا؛ إذا جمع الفضائل، ونظم آحاد العقائل، وحاز من العلم الذري والغوارب. فلا يخفى على ذي لب أنه أغرق في الفهم فصولا، وأعرق في العلم أصولا، فأقول مختصرا، وعما يليق بمدحه معتذرا، عسى يمر به من تضاعيف ثنائي عليه ما يبلغني به الزلفى في حبه، والقربى من قلبه، وتلك أمنيتي حين ألقى منيتي، لا أتعداها، ولا أتمنى سواها ولله در القائل: إذا ابن حجي حادت لنا يده *** لم يحمد الأجودان البحر والمطر وإن أضاءت لنا أنوار غرته *** تضاءل الأنوران الشمس والقمر وإن مضى رأيه أو جد عزمته *** تأخر الماضيان السيف والقدر من لم يبت حذرا من خوف سطوته *** لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر؟ كأنه الدهر في نعمي وفي نقم *** إذا تعاقب منه النفع والضرر كأنه وزمام الدهر في يده *** يدا عواقب ما يأتي وما يذر فالحمد لله الذي جعل جمال منظرك موازيا لكمال مخبرك، وشامخ فرعك مقارنا لراسخ عنصرك، والله حسبي فيك من كل ما يعوذ العبد به المولى: واسلم وعش لا زلت في نعمة *** أنت بها من غيرك الأولى وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. كتبه الفقير محمد بن علي الصوفي البواب، لمنعاه التضائية، بدمشق المحروسة، حامدا ومصليا، ومحسبلا ومحوقلا، والحمد لله وحده". يقول الفقير إلى عفو ربه سامي بن محمد بن عبد الرحمن بن سلامة: وكان الانتهاء من تحقيق تفسير القرآن العظيم فجر يوم الأربعاء الثاني من شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية في مدينة الرياض، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
|